كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ينبغي أن يتعطش العبد إلى أن يصير بحيث ينفتح بلسانه مغاليق المشكلات الإلهية وأن يتيسر بمعرفته ما يتعسر على الخلق من الأمور الدينية والدنيوية ليكون له حظ من اسم الفتاح العليم معناه ظاهر وكماله أن يحيط بكل شيء علما ظاهره وباطنه دقيقه وجليله أوله وآخره عاقبته وفاتحته وهذا من حيث كثرة المعلومات وهي لا نهاية لها ثم يكون العلم في ذاته من حيث الوضوح والكشف على أتم ما يمكن فيه بحيث لا يتصور مشاهدة وكشف أظهر منه ثم لا يكون مستفادا من المعلومات بل تكون المعلومات مستفادة منه.
تنبيه:
للعبد حظ من وصف العليم لا يكاد يخفى ولكن يفارق علمه علم الله تعالى في الخواص الثلاث:
إحداها المعلومات في كثرتها فإن معلومات العبد وإن اتسعت فهي محصورة في قلبه فأنى يناسب ما لا نهاية له.
والثانية أن كشفه وإن اتضح فلا يبلغ الغاية التي لا يمكن وراءها بل تكون مشاهدته للأشياء كأنه يراها من وراء ستر رقيق ولا تنكرن درجات الكشف فإن البصيرة الباطنة كالبصر الظاهر وفرق بين ما يتضح في وقت الإسفار وبين ما يتضح ضحوة النهار.
والثالثة أن علم الله سبحانه وتعالى بالأشياء غير مستفاد من الأشياء بل الأشياء مستفادة منه وعلم العبد بالأشياء تابع للأشياء وحاصل بها.
وإن اعتاص عليك فهم هذا الفرق فانسب علم متعلم الشطرنج إلى علم واضعه فإن علم الواضع هو سبب وجود الشطرنج ووجود الشطرنج هو سبب علم المتعلم وعلم الواضع سابق على الشطرنج وعلم المتعلم مسبوق ومتأخر فكذلك علم الله عز وجل بالأشياء سابق عليها وسبب لها وعلمنا بخلاف ذلك.
وشرف العبد بسبب العلم من حيث أنه من صفات الله عز وجل ولكن العلم الأشرف ما معلومه أشرف وأشرف المعلومات هو الله تعالى فلذلك كانت معرفة الله تعالى أفضل المعارف بل معرفة سائر الأشياء أيضا إنما تشرف لأنها معرفة لأفعال الله عز وجل أو معرفة للطريق الذي يقرب العبد من الله عز وجل أو الأمر الذي يسهل به الوصول إلى معرفة الله تعالى والقرب منه وكل معرفة خارجة عن ذلك فليس فيها كثير شرف.
القابض والباسط هو الذي يقبض الأرواح عن الأشباح عند الممات ويبسط الأرواح في الأجساد عند الحياة ويقبض الصدقات من الأغنياء ويبسط الأرزاق للضعفاء يبسط الرزق على الأغنياء حتى لا يبقي فاقة ويقبضه عن الفقراء حتى لا يبقي طاقة ويقبض القلوب فيضيقها بما يكشف لها من قلة مبالاته وتعاليه وجلاله ويبسطها بما يتقرب إليها من بره ولطفه وجماله.
تنبيه:
القابض الباسط من العباد من ألهم بدائع الحكم وأوتي جوامع الكلم فتارة يبسط قلوب العباد بما يذكرهم من آلاء الله عز وجل ونعمائه وتارة يقبضها بما ينذرهم به من جلال الله وكبريائه وفنون عذابه وبلائه وانتقامه من أعدائه كما فعل رسول الله حيث قبض قلوب الصحابة عن الحرص على العبادة حيث ذكر لهم أن الله عز وجل يقول لآدم عليه الصلاة والسلام يوم القيامة «ابعث بعث النار فيقول كم فيقول من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعون» فانكسرت قلوبهم حتى فتروا عن العبادة فلما أصبح ورآهم على ما هم عليه من القبض والفتور روح قلوبهم وبسطهم فذكر «أنهم في سائر الأمم قبلهم كشامة سوداء في مسك ثور أبيض».
الخافض الرافع هو الذي يخفض الكفار بالإشقاء ويرفع المؤمنين بالإسعاد يرفع أولياءه بالتقريب ويخفض أعداءه بالإبعاد ومن رفع مشاهدته عن المحسوسات والمتخيلات وإرادته عن ذميم الشهوات فقد رفعه إلى أفق الملائكة المقربين ومن قصر مشاهدته على المحسوسات وهمته على ما يشارك فيه البهائم من الشهوات فقد خفضه إلى أسفل السافلين ولا يفعل ذلك إلا الله تعالى فهو الخافض الرافع.
تنبيه:
حظ العبد من ذلك أن يرفع الحق ويخفض الباطل وذلك بأن ينصر المحق ويزجر المبطل فيعادي أعداء الله ليخفضهم ويوالي أولياء الله ليرفعهم ولذلك قال الله تعالى لبعض أوليائه أما زهدك في الدنيا فقد استعجلت به راحة نفسك وأما ذكرك إياي فقد تشرفت بي فهل واليت في وليا وهل عاديت في عدوا؟
المعز المذل هو الذي يؤتي الملك من يشاء ويسلبه ممن يشاء والملك الحقيقي إنما هو في الخلاص من ذل الحاجة وقهر الشهوة ووصمة الجهل فمن رفع الحجاب عن قلبه حتى شاهد جمال حضرته ورزقه القناعة حتى استغنى بها عن خلقه وأمده بالقوة والتأييد حتى استولى بها على صفات نفسه فقد أعزه وآتاه الملك عاجلا وسيعزه في الآخرة بالتقريب ويناديه {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} [89 سورة الفجر] الآيات.
ومن مد عينه إلى الخلق حتى احتاج إليهم وسلط عليه الحرص حتى لم يقنع بالكفاية واستدرجه بمكره حتى اغتر بنفسه وبقي في ظلمة الجهل فقد أذله وسلبه الملك وذلك صنع الله عز وجل كما يشاء حيث يشاء فهو المعز المذل يعز من يشاء ويذل من يشاء وهذا الذليل هو الذي يخاطب ويقال له {ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية} 57 سورة الحديد الآية 14و 15 وهذا غاية الذل وكل عبد استعمل في تيسير أسباب العز على يده ولسانه فهو ذو حظ من هذا الوصف السميع هو الذي لا يعزب عن إدراكه مسموع وإن خفي فيسمع السر والنجوى بل ما هو أدق من ذلك وأخفى ويدرك دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء يسمع حمد الحامدين فيجازيهم ودعاء الداعين فيستجيب لهم ويسمع بغير أصمخة وآذان كما يفعل بغير جارحة ويتكلم بغير لسان وسمعه منزه عن أن يتطرق إليه الحدثان ومهما نزهت السميع عن تغير يعتريه عند حدوث المسموعات وقدسته عن أن يسمع بأذن أو بآلة وأداة علمت أن السمع في حقه عبارة عن صفة ينكشف بها كمال صفات المسموعات ومن لم يدقق نظره فيه وقع بالضرورة في محض التشبيه فخذ منه حذرك ودقق فيه نظرك.
تنبيه:
للعبد من حيث الحس حظ في السمع لكنه قاصر فإنه لا يدرك جميع المسموعات بل ما قرب من الأصوات ثم إن إدراكه بجارحة وأداة معرضة للآفات فإن خفي الصوت قصر عن الإدراك وإن بعد لم يدرك وإن عظم الصوت ربما بطل السمع واضمحل، وإنما حظه الديني منه أمران:
أحدهما أن يعلم أن الله عز وجل سميع فيحفظ لسانه.
والثاني أن يعلم أنه لم يخلق له السمع إلا ليسمع كلام الله عز وجل وكتابه الذي أنزله وحديث رسول الله فيستفيد به الهداية إلى طريق الله عز وجل فلا يستعمل سمعه إلا فيه.
البصير هو الذي يشاهد ويرى حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى وإبصاره أيضا منزه عن أن يكون بحدقة وأجفان ومقدس عن أن يرجع إلى انطباع الصور والألوان في ذاته كما ينطبع في حدقة الإنسان فإن ذلك من التغير والتأثر المقتضي للحدثان وإذا نزه عن ذلك كان البصر في حقه عبارة عن الصفة التي ينكشف بها كمال نعوت المبصرات وذلك أوضح وأجلى مما يفهم من إدراك البصر القاصر على ظواهر المرئيات.
تنبيه:
حظ العبد من حيث الحس من وصف البصر ظاهر ولكنه ضعيف قاصر إذ لا يمتد إلى ما بعد ولا يتغلغل إلى باطن ما قرب بل يتناول الظواهر ويقصر عن البواطن والسرائر.
وإنما حظه الديني منه أمران:
أحدهما أن يعلم أنه خلق له البصر لينظر إلى الآيات وإلى عجائب الملكوت والسموات فلا يكون نظرة إلا عبرة قيل لعيسى عليه السلام هل أحد من الخلق مثلك فقال من كان نظره عبرة وصمته فكرة وكلامه ذكرا فهو مثلي.
والثاني أن يعلم أنه بمرأى من الله عز وجل ومسمع فلا يستهين بنظره إليه واطلاعه عليه ومن أخ في عن غير الله ما لا يخفيه عن الله فقد استهان بنظر الله عز وجل والمراقبة إحدى ثمرات الإيمان بهذه الصفة فمن قارف معصية وهو يعلم أن الله عز وجل يراه فما أجسره وما أخسره ومن ظن أن الله تعالى لا يراه فما أظلمه وأكفره.
الحكم وهو الحاكم المحكم والقاضي المسلم الذي لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه ومن حكمه في حق العباد أن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى وأن الأبرار لفي نعيم وأن الفجار لفي جحيم ومعنى حكمه للبر والفاجر بالسعادة والشقاوة أنه جعل البر والفجور سببا يسوق صاحبهما إلى السعادة والشقاوة كما جعل الأدوية والسموم أسباب تسوق متناوليها إلى الشقاء والهلاك.
وإذا كان معنى الحكمة ترتيب الأسباب وتوجيهها إلى المسببات كان المتصف بها على الإطلاق حكما مطلقا لأنه مسبب كل الأسباب جملتها وتفصيلها.
ومن الحكم ينشعب القضاء والقدر فتدبيره أصل وضع الأسباب ليتوجه إلى المسببات حكمه ونصبه الأسباب الكلية الأصلية الثابتة المستقرة التي لا تزول ولا تحول كالأرض والسموات السبع والكواكب والأفلاك وحركاتها المتناسبة الدائمة التي لا تتغير ولا تنعدم إلى أن يبلغ الكتاب أجله قضاؤه كما قال تعالى: {فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها} 41 سورة فصلت الآية 12 وتوجيه هذه الأسباب بحركاتها المتناسبة المحدودة المقدرة المحسوبة إلى المسببات الحادثة منها لحظة بعد لحظة قدره فالحكم هو التدبير الأول الكلي والأمر الأزلي الذي هو كلمح البصر والقضاء هو الوضع الكلي للأسباب الكلية الدائمة والقدر هو توجيه الأسباب الكلية بحركتها المقدرة المحسوبة إلى مسبباتها المعدودة المحدودة بقدر معلوم لا يزيد ولا ينقص ولذلك لا يخرج عن قضائه وقدره شيء.
ولا تفهم ذلك إلا بمثال ولعلك شاهدت صندوق الساعات التي بها يتعرف أوقات الصلوات وإن لم تشاهده فجملة ذلك أنه لابد فيه من آلة على شكل أسطوانة تحوي مقدارا من الماء معلوما وآلة أخرى مجوفة موضوعة فيها فوق الماء وخيط مشدود أحد طرفيه في هذه الآلة المجوفة وطرفه الآخر في أسفل ظرف صغير موضوع فوق الأسطوانة المجوفة وفيه كره وتحته طاس بحيث لو سقطت الكرة وقعت في الطاس وسمع طنينها ثم يثقب أسفل الآلة الأسطوانية ثقب بقدر معلوم ينزل الماء منه قليلا قليلا فإذا انخفض الماء انخفضت الآلة المجوفة الموضوعة على وجه الماء فامتد الخيط المشدود بها فحرك الظرف الذي فيه الكره تحريكا يقربه من الانتكاس إلى أن ينتكس فتتدحرج منه الكرة وتقع في الطاس وتطن وعند انقضاء كل ساعة تقع واحدة.
وإنما يتقدر الفصل بين الوقعتين بتقدير خروج الماء وانخفاضه وذلك بتقدير سعة الثقب الذي يخرج منه الماء ويعرف ذلك بطريق الحساب فيكون نزل الماء بمقدار مقدر معلوم بسبب تقدير سعة الثقب بقدر معلوم. ويكون انخفاض أعلى الماء بذلك المقدار وبه يتقدر انخفاض الآلة المجوفة وانجرار الخيط المشدود بها وتولد الحركة في الظرف الذي فيه الكرة وكل ذلك يتقدر بتقدر سببه لا يزيد ولا ينقص ويمكن أن يجعل وقوع الكرة في الطاس سببا لحركة أخرى وتكون الحركة الأخرى سببا لحركة ثالثة وهكذا إلى درجات كثيرة حتى تتولد منه حركات عجيبة مقدرة بمقادير محدودة وسببها الأول نزول الماء بقدر معلوم فإذا تصورت هذه الصورة فاعلم أن واضعها يحتاج إلى ثلاثة أمور:
أولها التدبير وهو الحكم بأنه ما الذي ينبغي أن يكون من الآلات والأسباب والحركات حتى يؤدي إلى حصول ما ينبغي أن يحصل وذلك هو الحكم.
والثاني إيجاد هذه الآلات التي هي الأصول وهي الآلة الأسطوانية لتحوي الماء والآلة المجوفة لتوضع على وجه الماء والخيط المشدود به والظرف الذي فيه الكرة والطاس الذي يقع فيه الكرة وذلك هو القضاء.
والثالث نصب سبب يوجب حركة مقدرة محسوبة محدودة وهو ثقب أسفل الآلة ثقبا مقدر السعة ليحدث بنزول الماء منها حركة في الماء تؤدي إلى حركة وجه الماء بنزوله ثم إلى حركة الآلة المجوفة الموضوعة على وجه الماء ثم إلى حركة الخيط ثم إلى حركة الظرف الذي فيه الكرة ثم إلى حركة الكرة ثم إلى الصدمة بالطاس إذا وقعت فيه ثم إلى الطنين الحاصل منها ثم إلى تنبيه الحاضرين وإسماعهم ثم إلى حركاتهم في الاشتغال بالصلوات والأعمال عند معرفتهم انقضاء الساعة وكل ذلك يكون بقدر معلوم ومقدار مقدر بسبب تقدر جميعها بقدر الحركة الأولى وهي حركة الماء.